جمال عبد الناصر في ذكرى ميلاده:حديث لا ينتهي . . اين كنا، اين اصبحنا، وكيف؟!
تستعد في هذه الايام الاوساط العربية التقدمية للاحتفال بالذكرى السادسة والثمانين لميلاد الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر حيث رأى النور في الخامس عشر من كانون الثاني سنة 1918 في مدينة الاسكندرية حيث كان يعمل والده عبد الناصر حسين موظف بريد، ومن أبرز الانشطة الاحتفالية بهذه المناسبة العزيزة على كل انسان عربي تقدمي ذلك المتحف الذي سيفتتح رسميًا في القرية الفرعونية على نهر النيل في مدينة القاهرة، ويضم هذا المتحف اشياء عبد الناصر الخاصة، ومجموعة كبيرة من صوره النادرة، وكذلك تسجيلات لكل خطبه التي القاها حين كان قائد مصر وزعيمها في الفترة بين 23 تموز/ يوليو سنة 1952 والثامن والعشرين من ايلول/ سبتمبر سنة 1970 يوم رحيله، ومن المهم في هذا الوقت بالذات ان تحيي القوى التقدمية العربية ذكرى ميلاد ابرز الزعماء العرب في القرن العشرين لان محاولات لا اول لها ولا آخر جرت لطمس اثر هذا الزعيم، واغتيال ذكراه وتاريخه معنويًا بالتشويه وشن الحملات المستمرة عليه لكي لا يتعلق الانسان العربي بهذا التاريخ المشرف والعظيم وحتى لا تكون مبادئ عبد الناصر دليل عمل وطني لهذا الانسان الذي أصبح محاصَرًا، مقيدًا، شبه عاجز وهو الذي خاطبه عبد الناصر في كثير من المناسبات قائلا: "إرفع رأسك يا اخي فقد ولى عهد الاستعباد"، هذا الانسان كان رأس مال عبد الناصر وكان محور عمل عبد الناصر حتى يخرجه من دياجير الظلمة والعذاب والقهر الي آفاق الحرية والتقدم والبناء بعيدًا عن الهيمنة الاستعمارية وسيطرة الاقطاع وراس المال المستغل، وبالرغم من ان حياته كانت قصيرة نسبيًا (اثنان وخمسون عامًا) الا انها كانت حافلة، والمهام التي حملها عبد الناصر كانت من الجسامة بحيث يصعب على البشر تحملها، وكان بحسه يدرك ان عمره لن يطول ما دام الحمل ثقيلاً والاعباء تثقل كاهله بلا توقف كأنها القدر الذي سقط عليه، وقد عبّر عن هذا الاحساس لصديقه الصحفي المصري الكبير الاستاذ محمد حسنين هيكل الذي اورد في كتابه "لمصر.. لا لعبد الناصر" الرواية التالية: "كنت اقول له ونحن نعيش ازمة من الازمات الكبرى التي كان يعبرها واحدة بعد واحدة: هل ستتاح لنا الفرصة يومًا لكي نجلس ونكتب معًا قصة ما حدث وحقيقته ربما عندما تصل الى سن الشيخوخة ولا تعود هناك مهام او مشاكل، تتاح لنا هذه الفرصة، نجلس معًا لنكتب القصة كلها.وقال هو ببساطة: سوف تكتبها وحدك.. فما اظن ان العمر سيصل بي الى مرحلة الشيخوخة. وقلت له: لماذا تقول ذلك؟ وكان رده: لنكن عمليين.. الذي يعيش نوع الحياة التي اعيشها ليس له ان ينتظر الشيخوخة والا كان - يخرف -".وبالفعل رحل قبل ان يصل الى سن الشيخوخة، رحل مبكرًا في قمة عطائه، ومجده، رحل بعد ساعتين من توديع الملوك والرؤساء العرب وكان آخرهم امير الكويت بعد ايقاف نزيف الدم الفلسطيني في الاردن في احداث "ايلول الاسود".رحل كما يرحل الزهاد والنسّاك دون ان يترك لعائلته شيئًا من حطام الدنيا غير مرتبه المتواضع بعكس المتزعمين الاقزام الذين تصبح ميزانياتهم وميزانيات ابنائهم مئات الملايين وربما ملياردات الدولارات وهي بكل تأكيد اموال الشعب المهدورة وكفانا فقط مثال واحد مما رأيناه اخيرًا حين وقّعت مؤسسة القذافي الابن اتفاقا مع مندوبي عائلات ضحايا الطائرة الفرنسية تدفع بموجبه هذه المؤسسة مبلغ (170) مليون دولار، ولا ندري كم تبلغ ميزانية القذافي الاب وهو الذي جاءنا قبل اربع وثلاثين سنة "ثائرًا" يدعي انه تلميذ عبد الناصر حتى وصل به الامر اخيرًا ان يتخرج من الجامعة العربية ليلتحق " بالجامعة الامريكية" ولكن ادعاء الناصرية شيء والانحياز لفكر ومبادئ عبد الناصر الحقيقية شيء آخر، فالفارق كبير بين هذا وذاك ولا بد ان نميز بين الاشياء ولا يجوز ان تختلط علينا الامور، فتاريخ عبد الناصر ناصع البياض يحكي للاجيال معنى الكرامة والعزة والكبرياء، وليس في تاريخ عبد الناصر انبطاح وتسليم ومذلة وللتذكير فقط انوه اليوم بقصة الثلاثة ملايين دولار امريكي، فقد بادرت ادارة الرئيس الامريكي "دوايت ايزنهاور" في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي ان تضع تحت تصرف سلطة الدولة العليا في مصر ثلاثة ملايين دولار لكي تصرف سرًا في أي وجه تراه هذه السلطة لحماية أمنها، تمامًا كما تضع اليوم عشرات الملايين تحت تصرف الكثير من الملوك والرؤساء، واصابت الدهشة عبد الناصر من تقديم امريكا له هذا المبلغ السخي الذي اخذه ليس ليضعه في حساب سري خاص به، وليس ليحمي به امنه الشخصي لان حب الشعب المصري والعربي له كان امنه الحقيقي، وانما اخذ المبلغ وامر ببناء برج القاهرة، وشبكة مواصلات مع العالم فيه كرمز للكرامة الوطنية، وأصبح هذا البرج حتى اليوم من معالم القاهرة التي تجذب الزوار والسائحين للصعود اليه، واثبت عبد الناصر بهذا الفعل الوطني كم هي سخية تلك السياسة الخفية للولايات المتحدة الامريكية، سياسة شراء الذمم لان عبد الناصر لم يعمل من اجل منفعة شخصية، لان القادة الكبار مثله لا تغريهم اهواء الدنيا ولا كل ذهب الارض، وفي غمرة نضاله المستمر لم يفرط بالكبرياء الوطني مهما كلفه ذلك من ثمن لانه تعامل مع الدول صغيرها وكبيرها بمنطق الند للند، حدث هذا عندما قاطعت امريكا الباخرة المصرية "كليوباترا" في موانئها فما كان من عمال مصر والاتحاد الدولي للعمال العرب الا ان قاطعوا كل السفن الامريكية في الموانئ العربية وتراجعت امريكا، واليوم حينما تمتهن الكرامة العربية وتمرغ في الوحل من قبل امريكا واسرائيل لا نجد صوتًا عربيًا واحدًا يغضب ولا اقول يعامل الآخرين بالمثل بينما انتقلت حمية عبد الناصر وكبرياؤه الى شعوب اخرى على حدود الولايات المتحدة، فهذه البرازيل مثلا تعامل الامريكيين بالمثل حين تجعلهم ينتظرون ساعات طويلة في مطاراتها الى ان يتم اخذ بصماتهم، واخذ صور شخصية لهم كما فعلت امريكا مع رعاياها، ولم تشفع للامريكيين احتجاجاتهم فلا احد افضل من احد، وهذا شعب المكسيك يتظاهر ضد وجود رجال امن امريكيين في مطاراتهم وينجح ابناء الولايات المتحدة المكسيكية في طرد حراس الولايات المتحدة الامريكية بعد ان داسوا كرامتهم الوطنية.واذا نظرنا الى الوطن العربي ايام عبد الناصر وكيف كان، وقارنا ذلك بما يحدث الآن فاننا سندرك حجم الكارثة، كل شيء تغير تمامًا وتراجع كثيرا فالفرق كبير وشاسع بين ما كنا عليه، وبين ما آلينا اليه، صحيح ان الاستعمار كان جاثمًا على معظم الاقطار العربية وقتها، وصحيح ان الشعوب العربية كانت تقاتل من اجل نيل استقلالها وانتزاع حريتها وقد وجدت في عبد الناصراكبر نصير لها، وبرحيل عبد الناصر عام 1970 كان الاستعمار قد حمل عصاه ورحل بعد معارك التحرر الوطني الضارية، واذا نظرنا اليوم الى خارطة الوطن العربي ما الذي نجده بعد كل هذه التضحيات، فالاستعمار القديم استبدل بنفوذ امريكي مباشر وغير مباشر أخذ اخيرًا شكل القواعد العسكرية والغزو المسلح والهيمنة الكاملة، دول تحسبها عربية واذا امعنت فالحاكم امريكي، هذا مثلا شيخ قطر حوّل امارته الى محمية امريكية يتباهى بالقواعد الامريكية على ارضه لانها ركيزته الوحيدة في بقائه اميرًا للبلاد، وهو حين يتكلم يتوهم انه اصبح امير دولة عظمى بينما هو اول من يعرف ان سكان شارع صلاح سالم في القاهرة اكثر عددًا من سكان امارته، وشيخ قطر هذا كثيرًا ما يتطاول على مصر والسعودية بعد ان ضاقتا ذرعًا بالدور المشبوه الذي يقوم به كعرّاب امريكي، وصديق لاسرائيل آثر ان يلعب دورًا مكشوفًا مدعيًا انه يفعل ما يفعله خوفًا من الدكتاتوريات!! ورحم الله عبد الناصر الذي وضع كل ثقله وطاقاته لاخراج الانكليز من قطر حتى تنال حريتها وكان حسن صبري الخولي ممثله الشخصي وحسين ذو الفقار صبري رجل افريقيا وأحد أبرز الدبلوماسيين المصريين هم اولئك الذين سلّمهم ملف قطر وصولاً بها الى الاستقلال والتحرر، وليست قطر هي الحالة الشاذة الوحيدة لان مجمل الوضع العربي الراهن هو كذلك، فالسودان الذي وقف الى جانبه عبد الناصر حتى تمكن في الاول من يناير عام 1956 من نيل حريته واستقلاله عمل الكثير من اجل ترسيخ وحدته الوطنية، فقد كان المرحوم صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة المصري، ومندوب عبد الناصر لدى السودان كثيرًا ما يخلع بزته العسكرية ويلبس اللباس الوطني لقبائل جنوب السودان ليرقص معهم حتى ان الغرب سموه "بالميجر الراقص"، وسودان اليوم اصبح مهددًا بالتقسيم بعد ان فرض عليه الامريكيون توقيع الاتفاق الاخير مع جون غرانق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، اما العراق الذي اصبح محتلا يتهدده التقسيم الى دويلات وقد كان الى وقت قريب جناح العرب الشرقي، هذا العراق كان في الرابع عشر من تموز سنة 1958 وفي قمة المد القومي العربي قد وجّه اكبر ضربة صاعقة الى قوى الاستعمار قاطبة حين اخرج بغداد من حلف بغداد الاستعماري وكان عبد الناصر اول المناصرين لثورة العراق، وليبيا الفاتح من ايلول 1969 وجدت في عبد الناصر سندها الاكبر اصبحت اليوم بعد ان انبطح القذافي وخلع سرواله محمية امريكية ومن يدري فربما تصبح غدّا محطة عبور لاسرائيل الى شمال افريقيا لان دور معاوية ولد طايع في موريتانيا لم يحقق النتائج المرجوة وبقي دوره محصورًا في بلده لا يستطيع تجاوزه لان المعارضة له بالمرصاد تنتظر لحظة الوثوب لتخليص البلاد من قمعه الوحشي ودوره المشبوه، وبالامكان الاسترسال طويلا في شرح الاوضاع العربية الراهنة مقارنة بما كان قبل اربعة عقود من الزمان عندما كان على رأس القيادة في هذه الامة زعيم شجاع مخلص، ووطني شريف، وقد يقول قائل: ان الظروف تغيرت وواقع الحال اليوم ليس كما كان والطاغوت الامريكي اصبح القطب الواحد وكل هذا صحيح، لكن صحيح ايضًا ان الشعوب قادرة على الدفاع عن شرفها الوطني اذا توفرت لها قيادة مخلصة فهذا رئيس فنزويلا شافيز هوغو بقي رغم انف الامريكيين لان جماهير شعبه معه، وهذا ياسر عرفات بلا حول ولا قوة بقي رغم انف شارون وبوش لان شعب فلسطين من ورائه، وكوبا على مرمى حجر من امريكا صامدة مع زعيمها كاسترو رغم الحصار الامريكي الممتد لخمسة واربعين عاما، واذا سلّمنا ان امريكا هي وحيدة القرن فهل هذا يعني ان تنبطح لها شعوب العالم وتستسلم؟وفي الختام اقول آن الاوان ان تستلهم شعوب الامة من روح عبد الناصر النضالية ونحن نحيي ذكرى ميلاده.
تعليقات